الاثنين، 3 يناير 2011

أووووع (قصة قصيرة)



أووووووووووووووع!



ابتسامة متشفية لا مبرر لها علت وجه (صبري برعي) وهو ينظر لـ (إبراهيم جاد الله) وسط المعتقلين. أحس (إبراهيم) بالغيظ. ف(صبري) هو سبب المصيبة التي وقع فيها. عندما وقع الإنقلاب انشغل صبري في مواجهته بينما تولى (إبراهيم) بشهامة حماية زوجة جاره وإيصالها آمنة للمستشفى لكي تلد. وعندما حاول العودة لداره لم يدرك أثناء انشغاله بزوجة (صبري) أن حظر التجول بدأ فسقط في الإعتقال جنبا إلى جنب مع مدبري الإنقلاب الفاشل.
حاول أن يشرح موقفه, وأن يستشهد ب(صبري) لكن الأخير استنذل معه بأقصى درجات النذالة! فمن ناحية خشي أن يقال أنه يعرف أحد المتمردين ومن ناحية أخرى كان حانقا لأن زوجته سمت وليدها (إبراهيم) بدلا من (برعي)!
وبقى (إبراهيم) المسكين يرتجف كورقة شجر يابسة وسط إعصار جامح! كان أصوات الآهات والصراخ الآتي من بعيد ممن يتعرضون للتعذيب تهزه هزا وهو الذي كان يفتخر دوما ببرود أعصابه ورباطة جأشه, لولا رباطة الجأش اللعينة هذه لما جرؤ أن يخرج مع جارته ولتركها تموت في شقتها!
جلس على الأرض محاولا الابتعاد عن برك المياه المشبوهة في الحجرة الضيقة التي تكدسوا فيها فمن يدري ماذا يمكن أن يكون مصدرها وسط هذا الرعب! ثم انتفض واقفا عندما فتح باب الجحيم ودخلت الزبانية –عفوا- باب الزنزانة ودخل المحققين ينتقون بعض الفرائس المكتوبة أسماؤها في ورقة خاصة ثم جروهم للخرج جرا وأغلقوا البوابة خلفهم تاركين الأفكار السوداء تحلق في أذهان البقية.
حاول (إبراهيم) التماسك لكن شعلة الرعب أمسكت في مشاعره فأضرمت نارا لا تنطفئ! كلما حاول أن يلقي عليها ببعض من نصائحه التي طالما لقنها لتلاميذه في الشطرنج حتى ازدادت توهجا وفككت أوصاله!
ثم فتح باب الزنزانة مرة أخرى ووقف (صبري) ورجل آخر يمسك بالورقة ويهتف "(حسنين رأفت)! أين (حسنين رأفت)!"
لم يرد أحد, حتى لو كان (حسنين) هذا موجودا فلن يرد!
قال (صبري) بضيق "ماذا نفعل الآن؟ عجرف بك ينتظر عشرة متهمين وليس تسعة فقط؟"
"اسمي (إبراهيم) وليس حسنين!"
لم يبال الرجل الآخر بتوسل إبراهيم وهو يجره من وسط المعتقلين وقال "أنت جامد وجسدك يتحمل!"
نظر (صبري) بفزع وقال محاولا إنقاذ جاره "لكن يا سيدي هو بالفعل.........."
لم يكمل لأن سيده هذا نظر له نظرة مستهترة. كانت محاولة إنقاذ (صبري) له أشد إفزاعا من أن يلاطفه ملك الموت! أي مصير مظلم كان ينتظر (حسنين) هذا!
أخذ (إبراهيم) يصرخ وهم يجرونه "اخرج يا جبان! (حسنين) يا زفت! (حسنين) يا ابن (رأفت) يا نتن! اخرج أيها الحقير! اخرج وكن رجلا! يا ابن الـ............"
ويبدو أن السيد (رأفت) والد (حسنين) كان عزيزا عند أحد أصحاب الشوم الذي حطم أسنان (إبراهيم) وجعله ينقاد معهم بسلاسة وأدب.


وأتوا به لحجرة بها تسعة معتقلين وقف وسطهم ضابط مهيب يعيد إحصاءهم فاندفع إبراهيم متوسلا عند قدميه وهو يقول "لست (حسنين)! لست (حسنين)! أنا (إبراهيم) وهاهي بطاقتي!"
ربت الضابط على كتفيه وهو يتناول البطاقة ويقول "اهدأ اهدأ! هذا خطأ بسيط أليس كذلك؟"
ثم فتح البطاقة وقال "اسمك (إبراهيم جاد الله)؟"
هز (إبراهيم) رأسه أن نعم.
أمسك الضابط بورقة المتهمين العشرة فشطب على (حسنين رأفت) وكتب على رأسها (إبراهيم جاد الله)!
ثم خرج الجنود تاركين المعتقلين العشرة معا, فاقترب أحدهم من (إبراهيم) وقال "لا تجزع يا أخي واطمئن. لو احتفظت بهدوء أعصابك وصلابة إيمانك فلن ينتزعوا منك شيئا وستخرج سالما. أهم شيء أن تكون هادئا وصلبا وسريع الإجابة."
نظر له (إبراهيم) بعين دامعة, كانت تلك أول كلمة مطمئنة يسمعها منذ وقت طويل ولذلك ورغم أنه لم يصدقها فقد هدأت من روعه بعض الشيء.
وقال (إبراهيم) لمحدثه "ليس لي ذنب, كنت في المستشفى حيث تلد زوجة جاري أساعدها في محنتها ولم أعلم بحدوث الإنقلاب أصلا ولا بأمر حظر التجول."
قال الرجل "لا بأس لا بأس! أقدار وابتلاءات ستخرج منها سالما, واحمد الله أنك هنا ففي العاصمة يتولى (عجرف) بك استجواب المعتقلين بنفسه! قضا أخف من قضا!"
شحب وجه (إبراهيم) بشدة وقال "من هو (عجرف) هذا؟"
قال الرجل بتوتر "دعك منه, إنه وحش مفزع يخيفون به أطفال المعتقلات!"
قال (إبراهيم) "لكنهم قالوا لي أن العشرة الذين كان منهم (حسنين) زفت (رأفت) سيستجوبهم (عجرف) بك!"
نظر التسعة الباقون (لإبراهيم) بذعر وقال واحد منهم في ركن الغرفة "يا أخي كن فأل خير أو اصمت!"
قال (إبراهيم) بارتياع "من هو (عجرف) هذا؟ أرجوكم اخبروني!"
هنا دخل أحد الجنود ممسكا بالورقة ونادى على الاسم الذي أصبح موجودا على رأسها "إبراهيم جاد الله!"
انكمش التسعة الآخرين مبتعدين عن (إبراهيم) كأنه سيلعنهم! فاتجه الجنود نحوه من فورهم وجروه إلى داخل حجرة مربعة عارية من الأثاث إلا منضدة وكرسيين يجلس عليهما المحقق (عجرف) بك والكاتب.
أغلقوا الباب خلفه وأحس (إبراهيم) أنهم يغلقون به كل أبواب الأمل ونظر له (عجرف) بعينيين ناريتين! كان شكله مهيبا جدا ومخيفا جدا حتى أنه ظهر في عين (إبراهيم) كشيطان مريد أو وحش مخيف, مثل هذا لا يمكن أن يكون بشرا من لحم ودم!


بدأ عجرف بالأسئلة العادية "اسمك وسنك ووظيفتك وعنوانك."
"إإإإإ.......إبراااااههههههييييييييم جاد الله."
وسكت, كانت حالته متدهورة بشدة, لقد تعرض خلال اليومين الماضيين لدرجات متصاعدة من الإرهاب والتخويف وأصبحت أشنع المصائر تراوده فتشل لسانه.
نظر له (عجرف) بصبر فارغ وهتف "اسمك وسنك ووظيفتك يا متمرد."
"لسسسسسسسسسسسسسسست متمررررررررررررررررررررردا يا سيااااااااااادتتتتتتتتتك!"
لو تركوه فقط لخمس دقائق في صفاء ذهني لاستعاد هدوء أعصابه. لنجح في أن ينفذ نصيحة هذا المعتقل الآخر وكانت إجاباته ستكون سريعة وحاضرة. خمس دقائق من الهدوء فحسب.
لكن قبضة عجرف هوت على المكتب بعنف وصرخ في (إبراهيم) يكرر أسئلته. كانت جلسة تحقيق مخيفة حقا, لم يتصور في أسوأ كوابيسه أن يقف عاجزا منهكا وذئب ضاري يدور حوله وينهض ويصفع ويعصف ويصر على اسنانه بصوت كتكسير العظام. كان (عجرف) دوامة سوداء تبتلعه وتخرجه من هذا العالم ببطء, نصف ساعة ليس إلا لكنها مرت عليه كدهور طويلة. كان حتى عاجزا عن الرد على أبسط الأسئلة. ذهنه يعد الإجابة فورا لكن لسانه يخشى نطقها. نصف ساعة من عذاب أشد وطأة من الكرابيج. نصف ساعة من الرعب الكامل قبل أن تأتي الأووووووووووووع!


في البداية تصور (إبراهيم) أن الصوت آت من بطنه الخاوية ولم يهتم. لكنه لمح تلك النظرة القلقة التي ألقاها (عجرف) عليه وعلى الكاتب فأضاء الفهم في ذهنه بغتة! مسألة فيسيولوجية طبيعية للغاية لكن هذا الوحش الذي استغنى عن انسانيته يعتبر أن قطعه لجلسة التحقيق لدخول دورة المياه ينقص من كرامته! الآن أصبح نهوضه للسير والدوران حول إبراهيم له معنى آخر. الأسنان التي تجز وتصر لها معنى آخر! عجرف استغنى عن بشريته وهاهي البشرية ترد له الصاع!
تغيرت قواعد اللعبة بسرعة عجيبة, لقد أصبح (لإبراهيم) يد عليا, الآن هذا (العجرف) سيعرف معنى الذل! لن يتركه لينهي التحقيق معه بسهولة, لقد أصبح (إبراهيم) أكثر سادية مما كان يتصور! وسيستخدم ورقة الإسهال الذي أصاب (عجرف) بأشنع الطرق!
قال (عجرف) "ما علاقتك بما حدث يوم الخميس من تمرد؟"
(إبراهيم) يصمت لمدة ثم يقول "همممممم, دعني أفكر,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,, هل تقصد علاقتي بمعنى علاقتي أم بمعنى مشاركتي؟ فهو حادث يمس الوطن كله وكل مواطن يتعلق بما يحدث على أرضنا............................."
يصرخ (عجرف) مهددا لكن النغمة في صوته بدت (لإبراهيم) متوسلة, آه! كم تبدلت الأدوار! لن أتركك تفلت أيها الحقير حتى أذلك!
وعندما أتت الأووووووووووووووع الثالثة وتسربت بعض الغازات الخانقة من سجنها المتوتر أصدر (عجرف) أول قرار إفراج في حياته!


تمت بحمد الله
محمد الدواخلي
12/2/2007 5 صفر 1429

ليست هناك تعليقات: