الجمعة، 4 نوفمبر 2011

مساقط الموت (رواية قصيرة)


القصة التي شاركت بها في مسابقة فانتازيا الثورة, لم أفز لكن المشاركة كانت الاهم خصوصا وأنها أتت بعد فترة توقف طويل, القصة بها بعض التعجل وتسارع الاحداث زائد في نهايتها وعدم ارتباط شخصياتها ببعض يسبب للقارئ بلبلة ولا يخلق محور للتعاطف معها. كذلك بها الكثير من المباشرة ( وهو عيب قاس لدي) حيث أفيض في المقصود منها بجمل تقريرية طويلة. لست من البارعين في القصة والقصة القصيرة عموما, الرواية هي ملعبي الكبير حيث الكثير من التخطيط والبناء المرهق الذي يجعلني أتخلى عن المشروع في الاغلب! ـراجعت القصة وحاولت تحسينها قليلا بعد المسابقة لكن مازالت العيوب السابق ذكرها واضحة. رغم ذلك أتمنى أن تكمون ممتعة أو بها قدر من التأثير
مساقط الموت

اليوم الثامن عشر:
ابتسم 18 مرتبكا مبتعدا بوجهه عن أعين 7 الثاقبة وهمس:
"أيبدو لك مختلفا؟ أتظنهم وصلوا إليه؟"
"18! كيف تفكر في هذا؟ لو وصلوا إلى 7 لانتهى كل شيء بالفعل, هو يعرف أدق التفاصيل."
"ما أعنيه يا 6 أنهم وصلوا لوسيلة ضغط عليه. ربما كان واقعا تحت التهديد, إنه يفكر أكثر من اللازم! انظر له ولتردده؟ أتتصور أنه سألني عن إذا كان ما نفعله مناسب أم أن وقته قد فات!"
"ماذا؟ لقد كان هو صاحب الفكرة في الأساس! أيمزح أم ماذا؟"
"6, أنت الوحيد الأعلى منه رتبة وأقربنا إليه, أنا قلق للغاية فدور 7مهم وأساسي في حركتنا, لو تراجع فسينهي كل شيء ويضيع مجهود 10سنوات وربما أكثر! ربما نضيع نحن أنفسنا وتضيع فرصة التغيير للأبد معنا."
لم يكن الأمر سهلا, فسبعة واحد من القدماء وهو الأكثر حزما وهيبة, الأعضاء القدامى لهم نفوذ يفوق من هم أعلى منهم رتبة. حتى رقم 1 لا يجرؤ على مواجهة 7 حين يختلف معه في الرأي بل يكتفي بأن يحيل أمره للجنة صفر (التي يمثل 7 عضوية أساسية فيها بصفته أقدم الأعضاء الأحياء) أو يوسط 6 للحديث معه.
لكن ما كان على المحك أمر جلل, إنه اليوم الذي بدأت من أجله الحركة الأولية منذ 80 عاما. يوم التغيير.
لم يكن هناك خيار, لابد من مواجهة 7 ومعرفة ما بذهنه, ولأنه يدرك أن الجميع من 1 الى 5 سيعيد الأمر إليه لأنه الأقرب ل7 فلا مفر من أن يقوم هو بالمهمة.
تقدم في وجل, وهو يتأمل متعجبا هذه الملامح الشابة الصارمة التي لا يصدق من يراها أنها تبلغ من العمر أكثر من مائة عام. إن القدماء لهم أسرار غريبة في الحفاظ على الشباب رغم أعمارهم العتيقة.
"ماذا هناك يا سيد 6؟ أتوجد مشكلة؟"
يحرص 7 على التراتبية العسكرية الصارمة للحركة, لا يبدأ حديثه مع من هو أعلى منه رتبة إلا بلقب السيد ولابد أن يؤدي التحية العسكرية. لكنه لم يفعل هذا هذه المرة, لا بد أنه مشغول البال بالفعل.
"7, أنت من أقرب أصدقائي ومن أهم أركان الحركة الأولية, ناهيك عن كونك من القدماء, بالطبع ما يشغلك يشغلني."
"آهه, لا تقلق يا عزيزي, هناك هذا الأمر الذي شاهدته أمس وأثار ذهني قليلا."
كانت حجة كافية من أي شخص, فالمشاهد المفزعة في كل مكان حولهم وهي السبب فيما يفعلونه أصلا, لكن 7 من القدماء وهم لا يتأثرون بسهولة
"ماذا شاهدت ليسبب لك كل هذه البلبلة يا عزيزي؟"
بدا التردد على وجه 7 قليلا ثم نظر في وجه 6 كأنما يقرأ أفكاره ليستشف منها شكوكه ومخاوفه. ثم تنهد وقال "أعلم أن الوقت لا يحتمل ريبة, يجب أن أصارحكم بأقل شيء لكن المشكلة أني خشيت رد الفعل."
"أي رد فعل تعني؟ لم كل هذا؟"
كان قلق 6 تضاعف بالفعل وبدأ ذهنه يعد خططا لمراقبة 7 واحتواء أي أزمة تؤثر على استعدادهم وهو ما سيكون صعبا لأن 7 متورط في كل شيء تقريبا.
لكن الأخير تكلم في النهاية "أمس وأنا عائد من مهمة القنبوري شاهدت ... شاهدت علامة."
لم يفهم 6 الامر في البداية فتسائل "علامة؟ علامة على ماذا؟"
"أنت تعرف, حسنا, العلامات كما يقولون, علامة من العلامات...."
قاطعته ضحكة 6 المدوية "علامة! تعني علامة من علامات الاضمحلال؟ يا رجل دع عنك! أتؤمن بهذه الخرافات؟ إنهم يرون مائة منها كل يوم!"
هز 7 رأسه بضيق وهو يقول "هذا هو رد الفعل الساخر الذي كنت أخشاه!"
أحس 6 بالحرج الذي لم يقلل من ارتياحه فاعتذر بقوله "آسف يا صديقي, لكن هذه الخرافات يجب ألا تشغل بالنا. خاصة واحد من القدماء مثلك وفي توقيت حرج كهذا."
مط 7 شفتيه وقال "هم يرون 100 علامة كل يوم يا 6, لكن هذه هي المرة الأولى في حياتي التي أراها, فالتمس لي العذر."
هز 6 كتفيه بعدم اكتراث قائلا " طوال عمرنا نراها ونفسرها تفسيرها العلمي الحقيقي ولا ننسبها لمؤامرة تنبؤية عمرها الف عام!"
هز 7 قدمه في عصبية شديدة وبدا انه يجاهد ليجبر نفسه على الصمت لكن 6 استمر في حديثه المستخف "انفلاق الاوراق مثلا, أمر عادي في ظل التلوث الذي دمر كل شيء, اسوداد الشمس ظاهرة فلكية تحدث كل 526 عام والدم في مياه الآبار هو نتيجة التلوث بأكسيد ال...."
قاطعه 7 منفجرا " أمس في حي الرابقة وعند مسقط الموت رأيته بأم عيني يا 6, رأيت القائد!"
ولم يعد هناك المزيد ليقال.

**********
اليوم الأول:
بالطبع فإن الجلسات الملكية ليست بالشيء المحبب للمراقبين, ولم يشذ يوسف-321 عن القاعدة, بل كان أبرع زملائه في انتحال الحجج للإفلات من الجلسات أو سرعة مغادرتها. في الأيام الهامة التي يكون فيها الحضور إجباريا على جميع الموظفين فإنه يصل متأخرا بعد انتهاء تلاوة التقارير المملة وانصراف أغلب القدماء. ويتحمل خصم التأخير من المرتب أهون من عبء الجلوس في حضرة القدماء وهو الأمر الذي يسبب له قشعريرة غريبة يفسرها بأنه نوع من الحساسية ضد شيء ما في رقيتهم.
لكن اليوم مختلف, اليوم ربما كان أهم يوم في حياة يوسف 321 البسيطة, ما حدث أمس جعل قلبه ينتفض وجعل هناك أمرا مختلفا في حضور تلك الجلسة الروتينية التي يجتمع فيها المجلس الحاكم مع كل موظفي الحكومة للاستماع لتقاريرهم الشهرية. اليوم حان الوقت ليستمعوا له.
كان أمرا غريبا أن يراه الحراس يأتي مبكرا, بدت الدهشة واضحة على وجوه العمال حين رأوا موظف مراقب يتخذ مكانا قرب المنابر. المراقبين هم ببساطة الموظفين الذين بلا عمل, لا حق لهم في قرار ولا ترقية ولا حديث. فقط يحضرون ويتلون بيانات مطولة من كتاب الرقية على الجمهور أو يتولون متابعة ورقة تائهة هنا أوهناك, أحيانا حين تكون هناك حملة كبرى أو إحصاء قومي يتولون بعض المهام. لكن في الأرجح فإن جل ما يفعلونه هو أن يحذفوا أسمائهم من خانة العاطلين مقابل قروشا لا تسمن ولا تغني من جوع.
كان يوسف 321 متوترا, القرار في داخله كان هائلا للغاية, لم يكن يستطيع تجاهل ما رآه أمس في مسقط الموت. الأمر أقوى منه بمراحل, لكن الخوف القديم الذي يبلغ من العمر مائتي عام ليس من اليسير إذابته أو تجاهله.
هل يفعلها؟ هل ينهض ويتكلم؟ كان قراره مائة بالمائة أن يفعل, حين اندفع في حماس مستبقا زحام المرور الخانق مضحيا بحلقة مسلسل الجماهير, ليأخذ هذا الكرسي الأمامي قرب المنبر. لكنه أصبح كرسيا من دبابيس يحضه على الصمت, أحس أن هذين المسندين المعدنيين سينطلقان نحو فمه ويخرسانه! لم يشعر بهذا الرعب في حياته!

بدأت الأعداد تتزايد, لم يعرف يوسف 321 أن الأمر هذا العام مختلف, الحركة الأولية نشطت كثيرا وسببت الكثير من المشاكل وهناك أحاديث هامسة عن عملية ضخمة يستعدون لها قريبا. القدماء يستجوبون المديرين عن كل همسة, الأهم هو أن استدعاء المستنصتين لنقل أحاديث الصارخات أصبح بندا ثابتا في بداية أعمال الجلسة الملكية ومع كل ما تفضحه الصارخات من أسرار كثير منها مسلي وعجيب فإن الجلسات أصبحت أكثر تشويقا للكثيرين.
أخذ يوسف 321 يعيد التفكير فيما رآه أمس, كان يشد من أزر نفسه ويأخذ أنفاسا عميقة ويحبسها حتى يكاد ينفجر فلا يطلقها إلا حين الاختناق, كانت مخاطرة أن ينتبه أحد لقيامه بواحد من تدريبات التنفس المحظورة لكن لو استجمع شجاعته وتكلم فسيكون القانون 1508 لحظر المجاذيب هو اهون مشاكله.
كالعادة بدأت الجلسة بسرد ما هو محفوظ ومعاد من تاريخ, ما حدث ذات يوم من وقوف جماعة من الشباب الشجعان في وجه ظلم المجاذيب وخرافاتهم التي سيطرت على المملكة وأغرقتها في حال من الهوان وصل لدرجة أن أصبحت شئونه تدار بأمر أتفه موظف أجنبي! الحديث عن يوم مجد يتيم حدث منذ مائة عام أنهى نظام الحكم القديم وأعوانه من المجاذيب الذين غيبوا عقول الناس وكوفئوا من ورائه بالارتقاء! وبينما يستمع يوسف 321 لأناشيد التمجيد في هذا الحدث العظيم يتوارد لذهنه ما كانت جدته تحكيه له وهو طفل أن الارتقاء إنما كان لعنة! الفخر الذي يباهي به القدماء أهل الوطن أنهم كوفئوا لوقوفهم في وجه الظالمين والمجاذيب بأنهم لا يشيخون ولا يمرضون ويعمرون إن لم يقتلوا لآخر الزمان إنما كان من وجهة نظر جدته الساذجة الأمية لعنة أصابت الأمة بدعوة من قائد المجاذيب الشيخ الصافي, الرجل المسكين الذي أعدموه ظلما بغير ذنب غير تهمة أنه متخلف فدعا على كل من لم يقف ليدافع عنه بأن يعيش في حكم من ظلموه للأبد! مسكينة جدته, أفضت بهمها للصارخات ذات يوم فأتى المستنصتين لبيتها يسحلونها حتى دار القضاء لتموت من الخوف في الطريق.

كلام تلو الكلام! تمجيد في عظمة القدماء وحكمتهم التي جمعوها في عقود عمرهم الطويل, الفضل الذي أتى على البلاد من قيادتهم الحكيمة لكل الوظائف حتى المعارضة وقيادة التمرد, كان يوسف يحس باختناق غريب منهم, كلما رأى واحدا من القدماء أحس بنبضه يتسارع ونفسه يضيق وجلده يقشعر, حساسية غريبة لا يجرؤ أن يفضي لأحد بسرها. هم في كل مكان, لو ذهبت إلى متجر كبير فمديره من القدماء, لو تطوعت في الجيش فلن تترقى لتصبح قائدا لأن القادة كلهم من القدماء, لو انضممت لحزب معارض فانتظر أن يقوم الملك بإعدام احد قادته من القدماء ليخلو لك منصب أمين قرية! المكان الوحيد الذي يمكن للبشر العاديين فيه الترقي هو الحركة الأولية, أولئك المنشقون الذين قالوا أن علينا أن نرجع لأسباب الحركة الثورية الأولى التي تخلى عنها القدماء بعد أن أصبحوا وزراء ومستشارين للملوك. ثمانون عاما يحاربون في صمت خجول الملك يريدون خلعه بينما زملاؤهم القدامى يقمعونهم بتهذيب.
انقطع تسلسل الأفكار الساخطة بهمهات علت في أطراف القاعة, حان وقت النميمة! لا يوجد في مملكة العلامات سوى أمرين فقط يهونان الحياة: مشاهدة مسلسل الجماهير والاستماع لنميمة الصارخات!
لا يعرف أحد على وجه الدقة كم يبلغ عمر الصارخات, هن قديمات قدم الدهر, الأحاديث عن وجودهن يرجع لعصور جد بعيدة, الحذر الحذر فإن للجدران آذان! هكذا تعلم كل طفل منذ عهد السلطان مرموط أول من استطاع أن يكتشف الصارخات ساكنات الجدران ويحدثهن ليكشفن له الأسرار. منذ متى كن موجودات قبلها لا أحد يعرف! بعد الارتقاء بأعوام قليلة أصبح لفئة من القدماء عرفوا بالمستنصتين القدرة على استجواب الصارخات, والصفقة بسيطة, أنت تفشي لها سرا فتفشي لك اسرارا, فقط حاذر أن تكذب عليها وإلا فستكذب عنك وتلفق لك أمام الآخرين ما لا تطيق!
بدأت الجدران تهتز وتسود, الصارخات يكشفن عن أنفسهن, يستعددن للهمسات اللاهثة الكاشفة, لحديث النميمة الطويل, لا يوجد من هو في مأمن من الصارخات! فحيثما تداري سرك يوجد جدار قد يكون مسكونا!
في الماضي كان السماع للصارخات لذة لدى يوسف 321, لم يحملهن سبب هلاك جدته فهن يفعلن ما يعرفه الجميع عنهن, هو خطأك أنت أن تدلي بسرك للجدران كعادة العجائو قبل ظهور المستنصتين. لا تلومن إلا نفسك حين يأتون لبيتك يحاسبوك على حماقتك!
لكن اليوم مختلف! لو علمت الصارخات بما يكتمه اليوم في صدره لانفجرن صريخا ربما دون مقابل من الاسرار! لكنه سيمحقهن ويبهتهتن. سيفضي هو بالأمر عاليا مكشوفا, بالصوت العلانية الذي لا تقدر الصارخات على سماعه!
بدأ المستنصتين همسهم, أسرار قذرة من قلب ظلمات البيوت ومن اعترافات المسجونين, نميمة حول من يرتدي نعلا بشكل قرد ومن يمتلك لباسا داخليا ممزقا لا يريد تغييره لأنه غير مكشوف! وترد الصارخات كاشفات همسات كثيرة, بعضها مضحك كحديث مقاهي الحشيش وبعضها محزن كأنباء الجرائم والقتل.
لكن الكنز الثمين للمستنصتين هو أحاديث السياسة, ما أن تبدأ صارخة في حديث عن المتكلمين في السياسة حتى يلقمها مستنصتها سرا عن تلك الممثلة الحسناء في مسلسل الجماهير! وهنا أفضت وتوسعت الصارخة في أخبار من يشكون ضيق الحال ويكفرون حين لا يرضون بالقضاء المحتوم متحدثين عن سوء الإدارة وتجمد الأحوال, تفيض له بأخبار مملة لا تهم المستمعين عن جرائم في حق البلاد, ربما بعض الغاضبين يستمعون لنبأ عن رشوة هذا الموظف أو إهمال هذا المدير فيهتفون طالبين المحاكمة ليؤخذ من وسط الجموع ويقاد إلى دار القضاء حيث يختفي للأبد وينتهي العرض الممتع باحتفالية التطهير هاتفين أن: الثورة مازالت مستمرة تطارد كل فساد وتحارب ذيول المجاذيب. ويتحدث الملك مخاطبا الجموع عن استمرار العمل المكافح لرعاية الشعب ومراعاة المساكين, وكالعادة يعلن عن التصدق بمبلغ كذا لكل فقير في البلد.

عرض يتكرر كثيرا لكنه كان جديدا ليوسف 321 الذي لا يحتمل البقاء في مكان واحد مع القدماء.لم يحضر من قبل مثل هذه العروض ولم يجرب ما يسميه زميله ماجد 103 بالسكينة.
وأحس اليوم أنه كالمسكن لألم أحرق قلبه, بالفعل كان يشعر بتنفيس لغضبه وأن رغبته في الحديث قد خفتت بعض الشيء. لكنه تذكر ما رآه بالأمس في مسقط الموت فاشتعل قلبه ثانية. سيموت إن تحدث لكن إن لم يفعل فسيكون الأمر أسوأ. سيكون كأن لم يكن!
"أبناء أمتي وأعدادها الحاشدة, رقم منكم سيتحدث وعدد منكم سيرد, من له بسؤال يحاسب به ملكه؟"
هكذا فتح الحديث الأخير في أي جلسة, حين يأتي المواطنون العاديون لمحاسبة الملك ومنحه الثقة. لكن لم تكن مشكلة يوسف 321 مع الملك.
رفعوا أياديهم وعين الصقر ترصدهم وترتبهم أبجديا حسب الاسماء والأرقام تنطلق أفراخ الصقر الملكي تنفذ ما يأمره بها أبوها لتقف بالترتيب حيث الأول فوق إبراهيم 11 والأخير فوق يوسف 380 ولكن من بين الجموع ودون انتظار الدور قفز يوسف 321مزيحا الصقر الملكي من فوق المنبر. لم ينتظر الإذن بالحديث لكن الصقر بسرعة بديهته استوعب هذا الحدث الغير مسبوق وسرعان ما تألق بأضواء على حروف (المواطن 1865431/يوسف 321 متحدث رقم 1من 251) وبينما انشغل المواطنون بنفض ريش أفراخ الصقر التي تصادمت وهي تهرع لإعادة الترتيب فوق رؤوس طالبي الحديث
همس يوسف: سأدلي إليكم بسر أكتمه في قلبي منذ ولدت"
لمعت الصارخات بنهم, تريد أن تلتهم وجبة جديدة من الأسرار المدفونة, لمح الناس بريقها فانتبهوا يريدون أن يسمعوا ما سترد به الصارخات على سر المواطن.

مد يوسف 321 يده مشيرا نحو الصقر الملكي وصرخ بصوت عالي يحمل ما كبتته السنون:
"هذا هو أنا, مجرد المواطن رقم 321 الذي حمل الاسم يوسف, طوال عمري أتساءل لم أنا يوسف 321 ولست يوسف؟ لما أنا نصف إنسان ونصف  رقم, أمس ذهبت إلى مسقط الموت, أتذكرونه؟ هناك أنظر لمن لا أعرفهم يموتون ولكن كنت أبحث عن بقية ال320 يوسف الذين ولدوا قبلي من يميزني عنهم ومن يميزهم عني؟ رأيتهم يموتون ميتات مختلفة لكن لا فرق! كلهم يعيشون يأكلون يذهبون لنفس العمل ثم يعودون منه ليموتوا كما ولدوا مجرد أرقام! سأموت مثلهم مجرد رقم ينتقل من خانة الأحياء إلى خانة ألأموات! أنا هنا لم آت لمحاسبة الملك وإنما لمحاسبة القدماء الذين حولونا لأرقام, حيث هم فقط من يديرون ومن يفكرون بينما نحن أرقام جامدة تمشي حيث يريدون. أتعلمون ما شكواي؟ أريد أن أفكر بغير ما كانوا يفكرون منذ مائة عام! أريد أن أعمل غير ما أعمل فيه من الميلاد حتى الموت! أريد أن أكون! أن أكون يوسف لا يوسف رقم 321. لا أريد أن أرى قديما يستمر في ثورة عمرها مائة عام ليقتل كل حياة بعده! تبا للترقي فأنا أريد أن أترقى!"
بعض الجهلاء لم يستمعوا لحرف مما قاله إنما كانوا ينتظرون رد الصارخات عليه فوجدوا بريقهن يخفت, لم يكن هناك شيء يقتل الصارخات ويصم المستنصتين قدر أن يعلن إنسان عما يعرفه الجميع ويكتمونه.
من نافلة القول أن يوسف 321 لم يعد له وجود في السجلات.
*******************
اليوم العاشر:
لم يكن جودة215 أبدا من الشباب الذي يسعى وراء الموضة والتقاليع, هو شاب هادئ دوما مطيع لوالديه لا يشغل باله الكثير في الحياة التي لا يتوقع منها الكثير.
لكنه كان (ككثير من الشباب المنغلق على نفسه) متعلق بأفكار الموت وما بعد الموت, لذا فتقليعة (سينما الموت) نجحت في جذبه مع غيره من الشباب.
كيف بدأت هذه الفكرة المجنونة لا يعرف, يزعم البعض أن أحدهم تحدث عنها في مجلس ملكي الشهر الماضي, بحث في السجلات عن هذا الأمر فلم يجد ذكرا لكن بعض الخبثاء تحدثوا عن هجوم على القدماء وموت بعض الصارخات وغيرها من أخبار النميمة السياسية المملة والمخيفة.
لكن لا يهم من صاحب الفكرة, المهم فيها هو نقاؤها! أن تذهب في حفلات جماعية مع أقرانك وسط الظلام في مكان لا تستطيع الصارخات أن ترصدك وتفضحك لوالديك أو للمستنصتين كي تشاهد موت أقرانك, من يحملون نفس اسمك يموتون أو ماتوا أو كيف سيموتوا! تجلس لتشاهد غير ما يشاهده زميلك المجاور لك إن لم يحمل نفس اسمك. تنظر للحظات الأخيرة وكيف لم يعرف ما هو مقبل عليه, تنظر للحظات عنيفة لجودة عاش منذ مائة عام ووقف في وجه الظلم حتى دهسه وجودة آخر باع أهله لأجل المال فمات مختنقا بلقمة دسمة! وجودة ثالث عاش مثلما مات لم يراه سواه جودة جالس في سينما الموت!
ولأن الفضول كالنار كلما ألقمتها ازدادت جوعا فقد أخذ جودة وزملائه يبحثون عن مسقط الموت هذا, اخرجوا كتبا قديمة من التي نبذها التاريخ ليقرأوا عنها.
"مساقط الموت من الظواهر الغريبة في مملكة العلامات, لكن لا غريب يبقى غريبا حين يدوم! حين ظهر أول مسقط للموت في جنوب البلاد ذهب له الحجاج ألوفا والتف حوله المجاذيب يقيمون الموالد ويذبحون الذبائح ويعدون الحضرات دون أن يسبروا غوره, كل من ينظر فيه يرى أناسا لا يعرفهم إما ماتوا أو يموتوا أو سيموتون! لا يمكنك أبدا أن ترى شخصا تعرفه في مسقط الموت. لذا لا يظهر فيها الملوك والمشاهير والأشخاص المهمين أبدا. هو لا يحتفي إلا بموت البسطاء كما وصفه الشيخ الصافي آخر قائد للمجاذيب. ثم ظهرت ثلاثة مساقط أخرى في كل ركن من أركان البلاد, اختفت هذه المساقط بعد الثورة إذ ردمها القدماء بعد الارتقاء."

فتن جودة215 كثيرا بفكرة: أنها لا تمجد إلا البسطاء. الاحتفاء بموت المواطن العادي الذي يمر عليه الجميع مرور الكرام! لكن إذا كان القدماء هدموها بعد الارتقاء فمن أين ظهر هذا المسقط الذي يلتف حوله الشباب بالساعات حتى الفجر؟

زميل كان ينقل حديث جده الخافت: لم يحب القدماء مساقط الموت لأمرين أولهما أنها لا تأت إلا بالموت بينما هم يعيشون أبدا. وثانيهما أن نبوءة الاضمحلال تحدثت عن علامات تسبقه, أهمها أن يرى الناس في مسقط الموت ميلادا! ميلاد لقائد مجاذيب جديد سيفنيهم. لكنهم رأوا فيها نفعا حين ظهر المسقط الخامس في حي الراقبة وسط العاصمة, لم يردم لأن الناس لاحظت أن الصارخات لا تقرب منه أبدا لذا كان نافعا لاجتماع كل من يريدون أن يتبادلوا سرا ولأن الأهالي قد نسوا أمر المساقط بعد ظهور التلفزيون وبدء مسلسل الجماهير. أصبحت مساقط الموت موقع كل الاتفاقات السرية بين الحركة الأولية والحكومة!

هكذا جمع الناس أقاصيص وخرافات عن مساقط الموت, كانت تسليتهم في الثرثرة أثناء انتظار دورهم للجلوس في سينما الموت, ولكن الانتظار يطول كل مرة بينما الليل قصير كما هو.

كان جودة 215 شابا هادئا حكيما كارها للشجار ويحاول أن يصلح بين الناس دوما, لذا كان هو من أتى بهذا الحل المباغت عندما تزايدت أعداد الشباب والشجار بينهم حول من يجلس أقرب للمسقط؟ أتى بجاروف وحفر حتى وسع المسقط لينظر فيه الجميع.
ثم أتى يوم زاد فيه الزحام ففكر ونظر في التربة محاولا استعادة ما كان يقصه له جده عن فن حفر الآبار, بدا له أن ما يجري في مسقط الموت هو ماء ما (يزعم المجاذيب أنه نهر الحياة) فإذا يمكن أن يحفر ليصنع مسقطا صغيرا إلى جوار المسقط الكبير.
درس الأبعاد وانسياب الأرض وأتى إلى مكان مظلل أسفل شجرة محتضرة وأزاح العفن المتراكم وقمامة الصارخات القديمة وحفر ثم حفر ثم حفر. كلما حفر اشتم رائحة غريبة حبيسة تجاهد لتغطي على العفن, وصل إلى أرض سوداء تموج ذكرته رغم لونها بالدم. ضرب ضربة أخرى فانبجس مسقط موت جديد, لم يدرك أنه أول مسقط موت يصنعه الإنسان في التاريخ فقد كان تاريخه قد قارب نهايته.
*************
اليوم السادس عشر

كان أول من أحس مؤلفي المسلسلات, مشاهدة مسلسل الجماهير أصبحت أقل بينما بقية المسلسلات لم تزد, وهنا تحركوا وأرسلوا إلى المستنصتين ليبحثوا في الأمر, لكن أنباء ما حدث وصلت إلى جبهة الجهلاء, ولأن الأمر يدخل في صميم اختصاصهم ولأن الصارخات لا تقرب مساقط الموت فقد عرفوا بالأمر وهاجوا وماجوا وخرجوا في الشوارع يحذرون وفي التلفزيون ينددون!
ألهذه الدرجة من الإفك وفساد الأخلاق انحدر شبابنا؟ أضاعت الهيبة والاحترام من قلوبهم؟ النزول لدرك مساقط الموت حيث كان يعيش المجاذيب!
اجتمع الجهلاء هائجون, حملوا القفف والمعاول وأقسموا ليحطمن هذا الصنم. نزل التلفزيون ليغطي الحدث الكبير, وقطع بث مسلسل الجماهير خصيصا ليرى انتصار الثورة الجديد ضد قوى الاضمحلال المتربصة.
أتوا في شغب ووسط النهار. أهالوا التراب وعفروا البيوت واقتلعوا الأشجار ليسدوا المسقط. وحين غطوه تماما عادوا لبيوتهم آمنين.
لكن في الليل اجتمع حفنة من شباب حول جودة 215. أخذوا ينظرون في وجل لهذا المسقط الصغير الذي حفره. فإذا بصوت الصارخات يعلو والمستنصتين يأتون من كل حين! تعثر جودة215 في الأرض فدفعه أحد المستنصتين بقدمه ليسقط في مسقط الموت وأهال الجهلاء عليه التراب.
*********************************

اليوم العشرون:
كان الأمر مقلقا. الكل ينظر حوله ويرتعب, السؤال يدور في ألسنة الكل ولا يجرؤون على إعلانه.
قيل أن أول من رآه كان رقم 7. وهو قديم كبير ذو مكانة جليلة انشق والتحق بالحركة الأولية.
بعد أن سحق الجهلاء كل جمع من الشباب أراد تأبين جودة215 وقبض المستنصتين على الكثير منهم أصبح الباب مفتوحا للحركة الأولية كي تتحرك وتقوم بما أرادت به دوما: خلع الملك وإنشاء حكما ثوريا يستلهم الارتقاء. لم يعد هناك كثير من شباب يمكن أن يجندهم الملك في جيشه, فأخذ الحركيون يذهبون هنا وهناك بأمر من 7. ولكنه عاد يوما شاحبا يقول أنه رأى في مسقط الموت ميلادا!
أخذت الناس تمر تلقي النظرة وتفر قبل أن يترصدها المستنصتون. بالفعل فالتراب المكوم فوق مسقط الموت يبدو كما لو كان قد تشكل في شكل طفل يولد! أهو القائد؟ أأتى الاضمحلال! حيث يفنى كل شيء وتضيع البلاد وتتحطم؟
رصفوا الشارع بأكمله كي يذهبوا هذه الكومة لكن البلدوزر انكسر حين اصطدم بشجرة قديمة يانعة مورقة. شجرة مذكور في الخرائط أنها متعفنة ميتة لكن البلدوزر حين أتى ليزيلها ضمن ما يزيل انكسر أمام أغصان قوية نبتت فيها!
كيف يكون الاضمحلال والموت ينقلب ميلادا!
*************************************
اليوم الثامن والعشرون:
الأسرار لم تعد تأتي من البيوت, صمّت آذان الحوائط. والفكرة مجنونة, أيكون الناس يحفرون داخل بيوتهم مساقط للموت؟
قيلت الكلمة فدارت بذعر بين القلوب. هجم المستنصتين يدهمون بيتا تلو الآخر. لم يجدوا شيئا
كان كل ما في الأمر أن الناس أصيبت بالبكم. هذا هو كل ما حدث, لم يحفروا مساقط موت ولم يقتلوا الصارخات أو يهدموا مساكنها في الجدران, كان الأمر مريحا للحكام.
لكن الفكرة أعجبت الشاب, لا ندري اسمه لكن ما بقي من بطاقته يقول أنه كان (فلان) 317. أصبح (ولسخرية القدر) بنصف اسم مثله مثل أعضاء الحركة الأولية.

اليوم الثلاثون:
ذهب 317 إلى عمله كموظف مراقب في دار القراءة, ولأنه عمل بلا عمل للموظفين الدائمين فعادة المراقبين الامضاء والرحيل كي لا يشاركوا الدائمين في وجبة البسكويت والشاي المدعم.
خرج .... 317 فاشترى مجرفا وجلس في حديقة الدار وأخذ يحفر, نظر له الناس بلا مبالاة, لم يصرخ فيه أحد (خاصة وقد كثر البكم في البلد) افترض الكل أنه لا يوجد شخص سيأتي ويحفر في وسط الميدان بدون إذن من المديرين.
حين ظهر مسقط الموت وأخذ ....317 يتأمله توقف الناس عن الحركة واحتشدوا حوله مذهولين, ما يحدث كان كأنه السحر الذي لم ير من قبل!
لم يكن فيما يرونه بل ما ما يسمعونه! كانت أصواتهم الضائعة تخرج منه في نغمات غريبة نشاز غير مفهومة لكنها كالسحر ذات فتنة!

كان أبناء الحركة الأولية بالجوار, خشوا من فتنة الناس وهم بين قوسين أو أدنى من الحرية. هم من دفنوه في مسقطه. والقدماء في الحكومة حذفوه من السجلات فلم يعرف اسمه ولم يتبق منه سوى نصف بطاقة و.........
ومجراف!
***************
في الليل سمع الناس أصواتهم الضائعة كأنها عادت لهم لكنها لا تخرج منهم, فتحت النوافذ فرأوا مسقط موت محفور في الطريق!
************

اليوم الخمسين:
أصبح الأمر وباء, أين ذهب مجراف 317 لا أحد يعرف, لكن من أخذه لم يكف عن الحفر حتى انكسر. خرجت جموع الجهلاء والمستنصتين والحركة الاولية تكافح هذا الفساد الذي يخرب الطرقات ويمزق السكون  ويلقي بالبلد لهوة الاستقرار, كما قال المجلس صفر في بيانه عن الحركة الأولية: ليس هذا وقت السياسة وألاعيبها فالبلاد تواجه خطرا محدقا وعلينا التكاتف لإنقاذها. على الملك أن يستجيب بلا نقاش قبل أن تضيع البلد!

لكن رغم العثور على المجراف المكسور لم يتوقف الحفر, منعت أدوات الحفر من البيع وارتفع ثمنها في السوق السوداء لآلاف مؤلفة!
والكارثة أن أتت الصارخات تزف النبأ الكئيب! بعض التجار يمنحونها مجانا لمن يريد حفر مسقط موت!
اتضحت المؤامرة الأجنبية الممولة لإلقاء البلاد في هوة الاضمحلال. كان كفاحا مقدسا صعبا مريرا لأبناء الثورة تجاه هذا السرطان المنتشر.
*****************
أخيرا التقى الخصمان, كان لابد من الوحدة الوطنية, تقرر عقد مؤتمر عام للشعب لمواجهة هذا الخطر, الإشاعات تقول أن الموت لم يعد يسقط فحسب داخل مساقطه بل يفيض في الطرقات يجري بين الناس فتهلل له وتعود أصواتها البكماء حتى يردمه الجهلاء.
دعي الشعب بأكمله وبكل طوائفه للمجلس, احتشدوا في القاعة الكبيرة يقابلون بعضهم البعض لأول مرة منذ انشقاقهم عن بعض بعد الارتقاء, هاهو القدماء يلتئم شملهم ثانية, صوتوا فيما بينهم وأجمعوا أن 7 هو أفضل زعيم يمثل كل جموع الشعب, خرج التلفاز يطنطن بانتصار المعارضة المجيد وعودة الروح الديموقراطية للثورة. لكن البث انقطع, فبينما كان (الشعب) مجتمعا في القاعة حفر البكماء حولها مسقطا للموت خرج منه لسان كبير ففتح له الحرس الأبواب ليلتهم القاعة ومن فيها!
وبدأ أخيرا عهد الاضمحلال إذ مات في ذلك اليوم كل مخلد.

تمت

=============================================