الثلاثاء، 9 أبريل 2013

لعنة النموذج المثالي

احد الافتكاسات المنطقية التي خرج بها فلاسفة اليونان هي افتراض وجود عالم مثالي, كامل رائع مذهل, هو الصورة السليمة للحياة بينما نحن نعيش في صورة ناقصة مختلفة عنه
ومن باطن هذه الافتكاسة خرجت نظرية تعددت صورها الدينية والادبية والعلمية
ان الحقيقة واحدة فقط, الصواب واحد فقط. بينما الخطأ قد يكون متعدد
وهذا اعتمادا على ان الحياة ماشية بنظام (ديجيتال) ما فيهوش غير صفر وواحد بس. مفيش انالوج بيقول نصف صحيح, شبه صحيح, صحيح بس مكروه اكتر من الخطأ!!!


في الدين مثلا نظرية (الحق واحد والباطل كثير) تم اختزالها بدلا من الاصل (الحق واحد وان تعددت صوره, والباطل ضلال وان كثر اتباعه)


فمثلا تم تجاهل أن القرآن دستور الامة نزل على سبعة احرف, يمكنك ان تقرأه قراءة صحيحة سليمة بزهاء الف طريقة كلها صحيحة وسليمة احتاجت الى جهاد عمر حتى جمعها الامام ابن الجزري مبوبة ومصنفة وهو مع كل جهده وتضحياته ورحلاته لم يبدأ من فراغ وانما اتم ما سبقه له علماء كثيرون اهمهم الشاطبي
تم استخدام كلمة (الحق واحد) لاخراس الالسنة, لطعن الخصوم, لتقبيح الاختلافات لرفع المذهب على غيره



في الادب نفس المشكلة! تصور ان هناك نموذج مثالي للادب او الرواية او القصة. وما دونه فهو شحطات/ارتجالات/دون المستوى /ارتداد ثقافي الخ
مثلا مع نبوغ الادب الواقعي في الستينات من القرن الماضي تحول الادب الواقعي الكاشف لخبايا المجتمع والذي يواجه(واحيانا يساند) عيوبه وقبحه هو هذا النموذج المثالي. بالتالي عانى الادب الخيالي (بالذات الفانتازيا) والادب التاريخي لما يشبه حملة صليبية من الاتهامات ب(الهروب من الواقع-الارتداد للتاريخ-نقص الادوات الابداعية للمؤلف فيلجأ لنموذج تاريخي جاهز)
بغض النظر ان الادب الواقعي هو في حد ذاته هروب الى الورق عن مواجهة الواقع والعمل فيه! فهذا الموروث من الاجتهادات النقدية الستيناتية العتيقة مازال جاثما حتى اليوم! مازال نفس الانتقادات التي وجهت للكاتب الشاب حينها نجيب محفوظ على رادوبيس نسمعها من الناقد الشاب الآن على كتابات اليوم الفانتازية!
وليت الامر يتوقف على الوان الادب! بل انواعه ايضا! فتجد من يؤمن بان الرواية تعلو على القصة او ان الشعر يعلو على النثر او (وهذا هو الادهى) الادب الحديث يعلو على الاشكال القديمة بغض النظر عن المحتوى!


في السياسة نفس التوهم ل(النموذج الاحادي المثالي)
فبيت تصور ان (الغرب تقدم عن طريق تدمير الدولة الاقطاعية الدينية وصولة للدولة المركزية الحديثة الصارمة انتقالا الى الدولة المابعد حداثية التي تجمع بين اللا مركزية وحيوية واستقلالية المجتمع مع السيطرة والقوة الحاكمة للدولة الحديثة)
ياتي توهم عند الحداثيين (في عصر ما بعد بعد الحداثة!) اننا يجب ان نمر بنفس الطريق بنفس الاخطاء بنفس المآسي! لابد ان ندمر كل طرق التعليم الغير نظامية لحصر اطفالنا في مصانع تعليب الطلبة المسماة مدارس,
أذكر ذات مرة ان اقترح احد اعضاء مجلس الشعب احياء الكتاتيب للقضاء على الامية فاعترض طاغية التعليم وقتها حسين كامل بهاء الدين غفر الله له
اعترض بان هذا رجوع للوراء لوسيلة تخلى عنها العالم!
هي لعنة النظرة الاحادية للنموذج المالثي!
لابد ان نقمع دور المؤسسات والرموز الدينية لاتاحة الفرصة لسيطرة وهيمنة تنين الحكومة على كل انفاسنا! لابد ان ندخل في بحور الدماء والظلم التي مرت بها اوروبا في عصور الدولة القومية الحديثة كي نصل لجنة التقدم الموعودة عبر نفس الطريق الوحيد الاحادي الصحيح!

طيب ليه ما نبدأش من حيث انتهى الآخرون؟ ليه ما نخدش (اللي فيه المصلحة) وخلاص! ليه لما ناخد فكرة رقابة المحكوم على الحاكم عن طريق الديموقراطية يبقى لازم يكون باكج واحد على بعضه غير قابل للتقسيط لازم ناخد النموذج الغربي الكامل بافكاره وفلسفاته حتى لو اختلف بعضها مع الدين؟

في المقابل توهم نموذج (دولة الخلافة) واذا كان ما يسمى بالتنويريين او الحداثيين متجمدين على نموذج اصله يرجع للقرن السبعتاشر فاهل الخلافة موزعين على القرن ال15 العثماني والقرن السابع العباسي واخيرا الخلافة الرشيدة
هم ينظرون لنماذج كانت ناجحة جدا جدا في الحكم
في تلك العصور بظروفها واعداد سكانها ووسائل اتصالها
لكن هل هي نموذج واحد ثابت غير قابل للتجزئة والتحديث بما يناسب عصرنا الحالي؟
لكنه (ترييح الدماغ) عبر التشبث بنموذج مثالي وهمي مطلوب محاكاته والاقتراب منه!

إنه الايمان بالوسيلة وليس بالهدف!
وهو احد الاعراض الجانبية لاعتقاد ان هناك نموذج مثالي واحد يتيم يجب الاقتراب منه للوصول للكمال!
مع ان الله خلق البشر متعددين
خلقهم الوان واصناف وألسنة وسلالات متعددة
لكن اغلاق العقل على شكل معين, خلق قبلة وهمية لاغراض دنيوية مسالة مريحة, عملية تصنع فلتر فرز تلقائي عملاق لاي شيء وكل شيء على اساس الموافقة او الاختلاف مع النموذج المثالي المتصور بما يتركه مع خيارات محدودة متوافقة مع قناعات فكرية معينة
والباقي خطأ
فالصواب واحد فقط !!!