الاثنين، 3 يناير 2011

ارشيفي من دار ليلى قصة قصيرة: نؤيد ونبايع


نؤيد ونبايع!


يبتسم أو يوهم نفسه بأنه يبتسم قبل أن يتناول أوراق الأخ المواطن فيتفحصها بمنتهى التمعن رغم أن خمسة موظفين آخرين سبقوه في دراستها. الأوراق سليمة نعم لكن ماذا يحدث لو...........؟
يسأل الأستاذ خميس نفسه هذا السؤال عشرات المرات, إن نظرية "من لا يعمل لا يخطئ فيترقى سريعا" شائعة عند الموظفين. لا أحد يحاسبك أو يكافئك على ما أنجزت لكن السكاكين مشهرة لك دوما لو أخطئت.
يرفع وجهه للمواطن ويقول "لو سمحت قرب المصباح من هذا التوقيع!"
طلب يبدو غريبا لكنه أصبح معتادا في حياة الأستاذ خميس التي انقلبت على أعقابها منذ الانتخابات الأخيرة, لم يكن الأستاذ خميس سياسيا أو مهتما بالسياسة لكنه القدر!
بدأ الأمر مع ترشيح الحزب الواحد لمرشحه الوحيد للمنصب الكبير. لم يهتم كثير الأستاذ خميس فلو طلبوا منه أن ينتخب فسيفعل ولو طلبوا منه ألا يفعل فسيستغل فرصة الإجازة لكي يزور خالته العجوز في البلد.
لكن مدير الإدارة أتاه بنفسه في مكتبه قبيل الانتخابات! ارتجف خميس عندما رآه يدخل المكتب ويذهب لشباكه المطل على الميدان الكبير وللظة توهم أن تأنيب الضمير سيجعل المدير يلقي بنفسه من مكتبه وتكون فضيحة! لكن المدير التفت لمرافق دخل خلفه وقال "من هنا, المكان مطل على الميدان."
لم يفهم خميس ما قاله في البداية لكنه فوجئ بالمدير يطالبه (بتبرع) لعمل لافتة تأييد للسيد المرشح الوحيد من أبناء المصلحة.
دفعها خميس صاغرا وهو يصك أسنانه غيظا ويقول لنفسه "لا بأس, لنستغني عن درس الفزياء هذا الشهر, يعني الولد كان هيفلح ويطلع زويل!"


وكان يوما مهيبا عندما أتت اللافتة العملاقة 5x8 متر ووضعت على واجهة المبنى أمام نافذة مكتب الأستاذ خميس ليطالعه الوجه المعكوس لسيادة المرشح كل يوم ويذكره برسوب ابنه في الفزياء والمرتب المأسوف عليه!
ثم ـى يوم الانتخابات الذي كان أجازة جميلة قضاها الأستاذ خميس مع أولاده في حديقة الحيوان يراقبون القرود التي تقلد كل ما يفعلونه مقابل حفنة من السوداني! وعاد السيد خميس في يوم إعلان النتيجة لعمله ليجد المدير يجمع (تبرعات) قهرية لعمل لافتة مضيئة كبيرة تبارك للزعيم الجديد.
ولكنه نجا منه بأعجوبة واعتصم مع حافظة نقوده الهزيلة في الحمّام حتى انتهت التبرعات بانتهاء اليوم. وعاد لمنزله فرحا لا يشغله سوى أكوام الطلبات التي سيضطر للتدقيق فيها بعد تراكمها أمام مكتبه 3 أيام دون عمل.
وعندما عاد وجد لافتة فنية ضخمة جميلة حقا من آلاف المصابيح تزين واجهة الميدان بكلمة مبروك فنظر لها بإعجاب وفخر (بما أنه من موظفي هذه المصلحة!) ودخل لمكتبه ليفاجئ أن مصباح المكتب انتزع بدواته وأسلاكه لينضم لتلك اللافتة! وتركوا له ثقب قبيح في سقف الحجرة يبرز منه قطعة سلك عارية منذرة بالشر تذكره بعاقبة من يتخلفون عن جمع التبرعات!
في البداية لم يهتم كثيرا. فأضواء لافتة التهنئة تضيء كل شبر في المكتب وشمس الصيف القوية تخترق القماش الفاخر للافتة نؤيد ونبايع وعلى أي حال فلا داع للإسراف في استخدام الكهرباء في عز الظهر!
لكن مع مرور الوقت تهاوت مصابيح لافتة مبروك الواحد تلو الآخر (أغلبها في ظروف غامضة!) بينما تجمعت عوادم السيارات والسناج والهباب على لوحة نؤيد ونبايع التي تغلق نافذة مكتب الأستاذ خميس فأصبحت معتمة لا تقدر شمس الشتاء الضعيفة (ولا حتى الصيف) أن تخترقها. وهنا قدم الأستاذ خميس طلبا بإصلاح مصباح المكتب فتم فتح ثلاثة تحقيقات قبل البت في الطلب (الأول من المسئول عن هذا التخريب والثاني أين بددت العهدة المتمثلة في مصباح ودواية و20سم سلك وأخيرا لماذا تقاعس الأستاذ خميس عن الإبلاغ عن الحادث في وقته!)
وقد استغرقت التحقيقات وقتا طويلا جدا ولم تنتهي حتى الآن ولا يستطيع الأستاذ خميس نظرا لوضعه الحرج في تلك التحقيقات أن يقوم بالإصلاح على نفقته (المحدودة أصلا) وإلا سيكون كمن يقدم دليل إدانته بيده فالإعتراف سيد الأدلة!


وهكذا تغيرت حياة الأستاذ خميس بفضل الانتخابات. أصبح يرتدي نظارة سميكة بعد أن كان يفخر بالستة على ستة. أصبح يعيش في حجرة مظلمة مغلقة بعد أن كان يطل على أكبر ميادين العاصمة. أصبح يطلب إتاوة من المواطنين تتمثل في مصباح كشاف يمسكه له حتى يفحص الطلب ثم يعيده له حتى لا تحتسب رشوة!
لكن كان هناك هذا المواطن السمج الذي لا يقدر الظروف! تصوروا أنه غضب من الأستاذ خميس حينما طلب منه كشاف يقرأ الطلب على ضوءه! بل تجاسر وطلب إزالة تلك اللوحة المسودة من أمام النافذة! لوحة نؤيد ونبايع يتم إزالتها! ياللهول!
ودار شجار عنيف بين المدير الذي لم يقبل بالمساس بلوحة السيد الزعيم واتهم المواطن بالخيانة العظمى, وبين الأستاذ خميس الذي أفزعه الاتهام وأخذ يدعي على هذا المواطن الذي سيخرب بيته! وإذا بالمواطن يغضب من الإتهام ويخرج ولاعة السجائر وينتزع ممزقا جزءا من اللافتة (حرف الدال من نؤيد مع جزء من قصة الشعر!) ويشعل فيه النار هاتفا "لتفحص طلبي الآن على ضوءها!"
لكن القماش المغطى بأكوام الهباب اشتعل في يده بسرعة مذهلة وسرعان ما لسع يده فألقى بقطعة القماش خارج النافذة لتشتعل نؤيد ونبايع بأكملها في لحظات!
لم تكن الخسائر كبيرة فحسن الحظ هوت اللوحة في الطريق بعيدا عن النوافذ. لكن المحطة الدرامية التالية في حياة خميس التي غيرتها السياسة اشتعلت!
جريدة من الجرائد الصفراء كتبت مانشيتا مخيفا : مواطنون يتظاهرون ويحرقون صورة عملاقة للزعيم احتجاجا على سوء الإدارة والحكم!
ووجد السيد خميس والمواطن المتأفف والمدير أنفسهم أمام سيادة اللواء رئيس مباحث إدارة (أنت معانا ولا مع التانيين)
أخذ الجبناء الثلاثة يستغفرون ويبدون الندم, ووجد رئيس مباحث أنت معانا ولا مع التانيين نفسه في مأزق. فلو عاقب الثلاثة فسيعتبر إعترافا بحدوث مظاهرة ويعاقب على تقصيره. ولو تركهم وقبل حكايتهم فستستغلها صحف المعارضة للحديث عن قيامه بتعذيبهم ليزعموا أن الأمر حادث بسيط.
وهنا قرر أن يأتي بالحل الثالث, والآن من يعبر الميدان وينظر ناحية المصلحة فسيجد لافتة ضخمة 8x 11 متر تؤيد وتبايع السيد الزعيم من قماش فاخر مضاد للحريق.
وربما يلفت نظرك كلمة (هو في قلبنا ونحن في قلبه) ومكان القلب في صورة الزعيم مفرغ والأستاذ خميس يطل برأسه منه لاستنشاق هواء الميدان الملوث!


تمت بحمد الله
محمد الدواخلي
12/2/2007 5 صفر 1429

ليست هناك تعليقات: