الأحد، 20 يناير 2008

(فتاة البسكويت / مجموعة قصصيّة)عن الهواجس نتحدثنظرة شخصيّة بعين الزميل / محمّد الدّواخلي الأديبة الشابة زينب البحراني في مجموعتها القصصية الأولى (فتاة البسكويت) التي حصلت بعض قصصها على عدد من الجوائز ترسم لنا بكلماتها صورة فكرية نعرفها جميعا : (الهاجس الملح أو الوسواس أو الهوس)أحيانا يتبادر لأذهاننا هواجس غريبة تسيطر علينا وتلح علينا بفعل ما .اذكر في طفولتي أن كان هناك هاجس ملح عليّ لتهشيم أنف!.. أي أنف لأي شخص. كنت أسير وأنظر لأنوف الناس وأنا أفكر في قبضتي (الصغيرة وقتها) تهوي عليهم لتهشمها، لماذا؟ لا أدري!!.. على الأرجح بسبب تأثري ب(أدهم صبري) الذي حطّم أنوف مئات الأشخاص (كانت مكانه المفضل في اللكمات) في السلسلة التي كنت أدمنها!..مثل هذه الهواجس الغريبة قد تأتي لأي شخص فيطردها بسهولة أو بصعوبة من ذهنه بعد صراع يطول أو يقصر. ولحظات الصراع هذه هي التي تخصصت زينب في رصدها، وبالذات قبيل الحسم.ولذا نجد مساحة الحوار الداخلي واستخدام صيغة الراوي الأنا موجودة بكثرة في قصص المجموعة.على أن هذه الهواجس تختلف وتتنوع، فمنها الإيجابي النافع كما يحدث للفنان في (فتاة البسكويت) وهو يعاني من هاجس صورة ثابتة في ذهنه يريد إفراغها على الأوراق، وهو هاجس نابع من رغبته في الكمال وخشية أفكاره الداخلية من الاستسلام للرضا بالذات. ونجد في المقابل هاجس سلبي في (رقصة التخمة) وهو هنا هاجس متعمق يصل لحد الانفصال في الشخصية بين ما يفرضه الواقع من استسلام للبعض وبين ما ترغبه النفس من تعالي وإحساس بقيمتها الحقيقية. وهناك مزيج من هذا وذاك في (أوغاد) حيث توجد الفتاة الغارقة في الحزن السلبي مقابل الأخرى التي تتجه نحو الانتقام، وتشطح الهواجس لدرجة تدميرية في (ولماذا أندم) حيث الفتى الذكي الوسيم يخفي تحته قناعًا مرعبًا يسيطر عليه هاجس بدائي تروح ضحيته فتاة بريئةأو تهبط لدرجة الانتحار في (فقاعة العطر) حيث هاجس الندم والخوف من الحياة تحت ثقل الذنب (وهذا هاجس ليس باليسير أبدا) ،أو تهرب بعيدًا مع هاجس الخوف من المستقبل كما في (حظ) وفي (لا أريد إلا وسادتي) نوع فريد من الهواجس مررنا به جميعا: هاجس لا ينبع من الوهم بل من الواقع الذي يزعجك في نومك وأحلامك!..ومع تنوع القصص وتنوع تلك الهواجس والصراعات بين طموح النجاح والرغبة في الهروب أو العظمة، وبين انكسارات الهزيمة والخيانة والرغبة في الانتقام أو الانتحار تتجول بنا الكاتبة في باقتها عارضة (بضاعتها ) بصورة جميلة تخلو من التكرار أو الملل ،فلا تجد تشابه بين القصص سوى في حالة واحدة بين بداية بائع الهواتف المجهول وبداية أوغاد مع وجود اختلاف كبير بين القصتين .المجموعة باسم (فتاة البسكويت) وهي أول القصص ترتيبًا في المجموعة، وإن كنت لا أعتبرها أقواها إطلاقا لكنها معبرة عن المجموعة ككل.. فبها أقوى نقاط القوة عند الكاتبة في تصوير الشغف والارهاق والعذاب النفسي وأقوى نقاط ضعفها في بعض التكرار والتكلف في صياغة بعض التشبيهات.الغريب أنني أحسست بأن القصص الأخيرة في الترتيب (أوغاد, كلنا نريدك, حظ) أقوى من التي وضعت في المقدمة (التي يبدأ القارئ بتصفحها عادة) وإن كانت انطباعاتي في النهاية شخصية وما يعجبني يسوء غيري وما لا يعجبني ينبهر به البعض!نأتي لأسلوب الكاتبة ككل:أجمل ما فيه قوة التعبير عن الصراع الداخلي ومن أقصر الطرق وأكثرها مباشرة : حوار بين الإنسان ونفسه أو قرينه أو وسواسه. إذ نجد التردد مع البرود في القرار و إلقاء التبعة على الأقدار في (ولماذا أندم)ثمّ نجد حب التملك الممتزج في الرغبة بالشعور بالاحترام الذي تحول لصورة مرضية مع عاشق الكراكيب (في كلنا نريدك ) . حتى عند غياب الحوار الداخلي كما في (أوغاد) نجد حوارا بين صديقتين إحداهما تمثل الصورة السلبية لمواجهة غدر الرجال (وهي فكرة متكررة بطريقة لا بأس بها بين ثنايا المجموعة) وبين الصورة الانتقامية الايجابية في الصديقة الثانية..ما قد آخذه على الكاتبة ولو أنني لست سوى قارئ عادي يدلي بانطباعاته هو الصور البيانية،مركبة بطريقة معقدة لزجة تنفر القارئ خاصة في بدايات بعض القصص. تجد تشبيه داخل تشبيه يؤدي إلى استعارة في نهاية السطر! .. فبينما الحوار مباشر مندفع نحو القارئ نجد (أحيانا) الصور غير مباشرة ومركبة بطريقة تشعرنا بالافتعال بعض الشيء.. في قصص أخرى مثل (كلنا نريدك ولماذا أندم) تحررت الكاتبة بعض الشيء من هذا القيد فانطلقت كلماتها تتنفس ريح الحرية في ذهن القارئ.من حيث حبكة القصص فقد تنوعت أيضا، وهي محكمة إلى حد كبير فبعضها يعتمد على مفاجأة القارئ التي قد تصل لحد الصدمة، وبعضها يعتمد على الهواجس العامة التي نشعر كلنا بها فننفعل معها (مثل: (حظ) حيث الخوف من المستقبل مدفون فينا جميعا)..أحيانا عن طريق الإدهاش والتشويق حيث نتساءل: لماذا فعل هذا في (ولماذا أندم) أو هل سينجح؟ كما في (فتاة البسكويت)..من حيث الألفاظ:أغلب ألفاظ الكاتبة سهلة يسيرة مناسبة لجو النص، باستثناء إلحاح غير محمود في استخدام الوزن استفعال في القصص الثلاث الأولى حيث أن هذا الوزن الذي هو ذروة الزيادة في الفعل يدل على قمة الجهد المبذول لم يكن له احتياج في الأحداث وأحيانا بدا محشورا من قبيل الزينة رغم تناقضه مع جو الجملة. (طبعا مرة أخرى لست ناقدا متخصصا وإنّما أنقل انطباعي كقارئ)..بعض قصص المجموعة كنت مركزة واضحة، البعض الآخر شابه شيء من التكرار وبدا أن الاختصار سيفيده. ولكن حتى في هذا لم يصل لدرجة الملل أو مضايقة القارئ. وهذا يُحمد للكاتبة أن فراملها أجادت التوقف في الوقت المناسب حتى ولو لم تترك مسافة الأمان الكافية في بعض الأمثلة القليلة .من الطريف أن قصة (أوغاد) التي حازت قدرا أكبر من التكرار كانت من أقوى قصص المجموعة على الإطلاق!أخيرا :بالطبع ليست كل قصص المجموعة متساوية في القوة هناك القصص الأفضل والأروع من غيرها،لكن كل قصص المجموعة - على الأقل بالنسبة لي- جيدة جدًا ولا توجد واحدة منها ضعيفة أو يندم على قراءتها القارئ.(فتاة اليسكويت) ومُخاض لوحةقصة جميلة حقا..وهي بالفعل توضح معاناة المبدع حينما يسعى نحو الكمالميلاد الفكرة يكون دوما براقا في مخيلة صاحبه لكن التطبيق عادة ما يكون أكثر تواضعا وحينما يتملك المبدع شغفا بالوصول لتلك الصورة الكاملة يعاني بشدة، لأن الكمال قد يبدو موجودا في عالم الخيال لكنه حتما غير موجود في عالم البشر..الرسام وصل لما ظنه الذروة..وصل لمرحلة الرضا والفخر بعمله..حينما تحطم كل هذا تحت الحاح صورة قفزت لذهنه من حيث لا يدري. ربما كانت صورة عابرة في أي مكانربما كانت شعار الدعاية على علبة الكعك المحلى الذي كان يأكله حينها لكنه لم ينتبه. ليست الصورة الحسناء هي التي ألهبته، و إنّما أنها محبوسة. فتاة حسناء محبوسة بلعنة أن تظل في مكانها لا تفعل سوى البكاء وأكل البسكويت.. مثل الرسام نفسه حينما ظن أنه وصل للذروة فكان يحكم على نفسه بأن يظل حبيسا في مكانه يكتفي ببسكويت الغرور لا يغادر إلى الآفاق البعيدة..القصة جيدة وسلسلة الاحداث تجعل القارئ يتابعها، لكن بدايتها بطيئة.. رأيي الشخصي أن بداية القصة هي أهم جزء بالنسبة للقارئ فهي التي يحكم منها بالإكمال أو الإدبار. لكن البداية هنا كانت ثقيلة محملة بأوزار الكثير من التشبيهات والألفاظ المنتحوتة البعيدة عن اللغة الأسهل المعتادة..هناك قارئ آخر سيرى أنها بداية قوية لأنه يحب حشد كل أسلحة الكاتب في البداية وهي مسألة اختلاف أذواق بالطبع. أنا كقارئ أفضل بداية خفيفة هادئة ولا بأس أن تكون مشوقة فأحشد الأحداث المباغتة في الأمام وأؤخر الزخرف اللفظي لما بعد الفقرة الأولى..فتشبيه ك:" ربما كانت جمجمتي مغارة استولى على خوائها طيش عصابة من شطار شرار الجان والعفاريت" ربما كان من الأفضل تأخيره الى وصف الحالة في نهاية القصة بدلا من ارهاق القارئ بكل هذا الحشد من الصور المركبة مع الجناس والترادفات في مساحة صغيرة.بمناسبة التشبيهات والصور فقد كانت جميلة حقا ومنها ما لفت انتبهي بشدة مثل:"صورة تلك الفتاة التي تجثم على صدري كلعنة شريرةو:كان هذا الهاجس طفلا في يومه الأول لكنه استحال إلى مارد فارع الجبروت"بداية الاحداث طيبة. لحظة الحيرة من المنتصف ثم عودة لتوضيح البدء قبل أن تسيري بالقارئ نحو النهايةمنذ أسابيع مضت على زمني كالدهور (بدت لي الجملة غير مستقيمة)هذا راي انطباعي ليس مدعوما بمأخذ لغوي ما لكنه مجرد انطباع..جميلة الجملة: مازلت أبذل أقصى جهد لاستحضار روح هذه الفتاةهو يريد استحضار الروح لا الشكل..جملة من مفاتيح القصة..وبالمناسبة استخدام الوزن (استفعال ) هنا مناسب لأنه يبذل مجهودا زائدا (الزيادة في الحروف تناسب الزيادة في الفعل)بينما في جملة استرضاء جوعي بدا استخدام هذا الوزن ثقيلا على أذني وغير مناسب للموقف.. هو لم يحاول بذل أي مجهود في الأكل ولو حتى الاتصال بخدمة التوصيل للمنازل بل اكتفى ببعض الكعك البائت.(كلنا نريدك): عاشق الكراكيبأورثتني طفولتي بعضا من عشق الكراكيب..كنت أجمع الكراكيب الصغيرة في المنزل (قطعة معدنية ما. جهاز معطل. مغناطيس. أغطية زجاجات مياه غازية) وأضمها لمجموعة ألعابي لتشاركها الحروب والمعارك الضخمة التي أوقعها بين جيوشها!..طبعا شفيت تدريجيا بدواء الزمن من هذا العشق أو اقتربت من الشفاء،لكن أثره الباقي في ذاكرتي جعل قصة كلنا نريدك تضيء في ذهني.القصة عن رجل عجوز يجمع الكراكيب بهوس غير عادي حتى أنه لا يستنكف انقاذها من جوار صناديق القمامة في الطريق ويضعها في حجرة كبيرة معلنها راعيا في مملكته. يحافظ عليها بأشد مما يفعل لأبناءه..لم يضرب زوجته في حياته إلا لأجل الكراكيب، لكن الزوجة لا تستطيع تفهم هذا الشغف المرضي الذي له أسبابه ، لا تفهم أن الرجل يجد (بفضل خياله) في هذه الكراكيب ما لا يجده عند زوجته وأولاده..لذا تدبر مؤامرة للتخلص من الكراكيب وبالطبع لن يسكت الملك على انتهاب مملكته ..القصة تجعلنا نعيش أنفاس هذا الرجل اللاهثة ونقلق معه أثناء تسلله الحذر الخائف من لسان زوجته السليط نحو (المملكة) ليضيف إليها عضوا جديدا..نتابع بشغف معركته ضد الغزاة (مخلوق صغير مسكين) حاول التسلل للمملكة..نشعر (رغم عن عدم اقتناعنا) بألمه حينما دبرت زوجته المؤامرة (الغادرة)إجادة في القصة من المؤلفة للأحداث نتابعها رغما عن عدم اقتناعنا بوجهة نظر البطل،ومشكلة أن تجبر القارئ على التعاطف مع البطل رغم أنه في الجانب المخطئ ليست سهلة.ومجموعة فتاة البسكويت بها أكثر من بطل مخطئ تطلب منا الكاتبة أحيانا أن نكرههم فنفعل في أغلب الأحيان وتطلب أن نتعاطف معهم في قصص أخرى فنطيعها صاغرين، مما يدل على تمكنها من حبكتها وسيطرتها على الوصف بحيث لا ينزلق بالقارئ بعيدا عن هدفها.أفضل مثال على الأولى هو (فقاعة عطر) حيث لم نحترم الراوي ولم نحزن على مصيره، وأقوى مثال على الثانية هو (كلنا نريدك). رغم أنه في كلا القصتين استخدمت سردا بلسان الراوي (الأنا) الذي أظنه يسهل التعاطف مع البطل أكثر من غيره من الأساليب.في كلنا نريدك أحلام كبيرة مدفونة في رجل عجوز لم يعد سنه ولا حياته يسمحان له بالتنفيس عنها..هو ككثيرين ممن يحلمون بالعظمة والمجد.. الاحترام والهيبة..والولاء من الآخرين لشخصه..وأن يحتاجه الآخرون فلا يستغنون عن أفضاله..أحلام ضخمة في سن الشباب لكنها في مثل هذا العمر الكبير تنحسر عادة لأحلام بسيطة توجه نحو الأسرة والأبناء..فإذا ما انكسرت على صخرتهم؟.......هنا حدث انحراف مريع لتلك الأحلام حيث نفخ الخيال الروح في الكراكيب لتصبح رعايا مخلصة مطيعة تريد زعيمها وتحتاجه. وبالتدريج تملك عليه هاجس جمع الكراكيب وهوس الحفاظ عليها، حتى احتلت مكانة عالية جدا جدا في قلبه وعقله أطاحت بأسرته تماما. ولما اصطدم بالتعامل البشري العادي الواقعي مع مشكلته دون النظر لجذورها ، كان صداما مروعا لم تحلم الزوجة بربعه!نجد التشبيهات سهلة واضحة.المشاعر متدفقة فورا ( الإعجاب ببعض الكراكيب ) (الحقد على الكائن الصغير الغازي) (الصراع الأليم وقت مؤامرة الزوجة) ..القصة رغم أن موضوعها السطحي يبدو : توافه وكراكيب، لكنها غاصت في أعماق الإنسان بسهولة تحسد عليها الكاتبة.وهذه بعض الأمثلة في القصة:(أسرعت خطاي بها إلى منزلي بصبر تبرأ من تاريخ أجداده) : تشبيه جديد غير مألوف عن نفاد الصبر ولو أنه غامض قليلا.. (تحريك المفتاح ببطء يرشو صمت القفل) : تشبيه جميل جدا ويقفز إلى ذهن القارئ صورة بالألوان!.. (أميرة جديدة على خيلاء كنزي الذي لا يدرك قيمته مخلوق سوى عشقي له) : مثال متكرر على الصور فائقة التركيب: جعل السماعة أميرة (صورة رقم 1)لتكون على خيلاء الكنز (2) وهذا الكنز لا يدرك قيمته سوى العشق الذي أصبح مخلوقا مفكرا (3) كل هذا كناية عن حب الرجل لأشياءه أو عشقه الذي أتى في نهاية السطر..ثم تكررت نفس الكناية بصورة أخرى في السطر التالي : (لم يكن لسحر جاذبيتها مثيل مر على ذاكرتي من قبل) : هنا الصورة مختصرة تصيب الهدف ولا ترهق القارئ بتحليل عناصرها معا مثل الصورة السابقة.تتكرر تلك الصور فائقة التركيب بين الحين والآخر في قصص المجموعة ولو أنها تكاد تغيب عن (كلنا نريدك) وهو ما اعتبرته في صالح القصة مقارنة بقصص أخرى في المجموعة.على أي حال لقد أمتعتني تلك القصة ربما بسبب ماضي عشق الكراكيب في الطفولة!!.. أو على الأرجح لبراعة رسم الشخصية فيها بطريقة تجعل ما تذكره الكاتبة يتكامل مع ما لم تذكره في ذهن القارئ بسهولة.مع تمنياتي بالتوفيق والمزيد من الابداع لقلم زينب البحراني

ليست هناك تعليقات: